لم يجد ضابط المرور الواقف عند تقاطع الشارع رقم ٥ مع الشارع رقم ٥٩ بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة، تعبيراً غير الابتسام هو وعدد من المنتظرين لفتح إشارة عبور المشاة، وذلك عندما عطست إحدى السيدات بصورة لافتة، فقد نظر إليها جميع من حولها، وبادر البعض بالحديث إليها مداعباً: «Bless you» - يرحمكم الله - ترى هل أجريت التحليلات اللازمة. لكن هذه الابتسامات كانت ممزوجة بالكثير من التوجس.
.. لا.. ولا داعى للقلق، فقط أعانى من الحساسية مع بداية كل ربيع ليس أكثر، أتمنى لكم يوماً طيباً، هكذا أجابت السيدة، قبل أن تمضى فى طريقها.
ربما كانت ردود أفعال حضور هذا الموقف وتساؤلاتهم، تعكس القلق عن حال نيويورك - أو التفاحة الكبيرة - كما يطلق عليها بعد انتشار مرض أنفلونزا الخنازير أو فيروس A-H١ N١ كما أعيدت تسميته لعدم وجود رابط علمى واضح بين الخنازير وانتشار هذا الفيروس بتلك الصورة المروعة، منذ ظهوره فى أواخر الشهر الماضى وحتى الآن.
فنيويورك مدينة ليست ككل المدن، وتختلف اختلافاً قاطعاً كولاية عن سائر الولايات المتحدة، يشبهها البعض بالقاهرة لأنها أيضاً لا تنام وشديدة الازدحام، فضلاً عن كونها مركزاً ثقافياً رئيسياً للعالم كله، وليس للقارة الأمريكية فحسب.
هى أيضاً غنية بتعددها الثقافى الناتج عن تواجد العديد من الجنسيات البشرية من سائر أنحاء العالم، فلا يوجد غريب بنيويورك، وأى إنسان مرحب به طالما له فيها عمل وهدف ينفعه وينفعها.
وهى قد تكون أيضاً قاسية للكثيرين، فهى طاردة لكل من ليس له هدف، فلا مكان فى المدينة لمن لا يسعى بكل جهد لرزقه، ولذلك فهى مدينة نشطة.. تدب فيها الحياة من السابعة صباحاً عندما يبدأ تدافع الكل - تلاميذ وساعين للرزق من جميع الفئات - فى اللحاق بالمترو، وهو وسيلة المواصلات الرئيسية فى المدينة للجميع، بدءاً من عمدتها وحتى أصغر موظفيها وطلابها لسرعته ورخص أجرته.
فى ظل هذا الإيقاع استيقظ سكان المدينة يوم ٢٨ أبريل الماضى على خبر فى جميع وسائل الإعلام، يفيد بإصابة عدد من سكان الجارة الجنوبية المكسيك، بنوع جديد من فيروس الأنفلونزا يصيب ويودى بحياة الشباب دون الأطفال والمسنين، ولم تلبث الأخبار أن تحولت إلى واقع مريع بعد إعلان إصابة عدد من تلاميذ مدرسة سانت فرانسيس بمنطقة «كوينز» - «queens» بالولاية- وهى أيضاً مركز سكنى للعرب والمصريين - بالفيروس نتيجة ذهابهم للمكسيك فى إجازة الربيع مما أدى لإغلاق المدرسة لمدة أسبوع.
ولم تمض أيام حتى أصبحت نيويورك أكثر الولايات إصابة بالمرض حيث تم فيها اكتشاف ١٩٢ حالة حتى الآن.
وتزايدت المخاوف - والاعتراضات - مع إغلاق مئات المدارس تحسبًا لانتشار الفيروس، بل قيام نائب الرئيس الأمريكى، جو بايدن، بالتحذير من ركوب المترو أو الطائرات أو التواجد بأماكن مغلقة مما دفع البيت الأبيض للتخفيف من حدة تصريحه بعد صدوره بدقائق معدودة.
ولكن بالرغم من عدم ارتداء الكمامات الواقية حتى الآن، فالخوف من الفيروس دفع الكثيرين إلى عدم التردد على دور العرض السينمائى، وشهدت مبيعات مطهرات اليد - hand sonitizers- أعلى أرقامها، حسبما قالت إحدى البائعات فى سلسلة صيدليات Dvone reade الشهيرة لـ «المصرى اليوم»: «لم نشهد مثل هذا الإقبال من قبل على مطهرات اليد.. نفدت كل الكميات المخزنة ونسعى لجلب المزيد منها».
واستمرت جميع وسائل الإعلام الأمريكية فى توعية السكان بكيفية الاتقاء من الفيروس، لكن دون إثارة للرعب أو الفزع فكانت الشفافية فى وصف الوضع هى السمة الرئيسية للتغطية الإعلامية مع تكرار النصائح اللازمة: غسل اليد باستمرار ووضع اليد على الفم عند السعال، «ليس أكثر».
ربما كانت هذه التغطية المعتدلة هى التى دفعت الحياة فى نيويورك للاستمرار، فبالرغم من تصريحات بايدن، استمر الناس فى ركوب المترو بعد عدة أيام من بداية انتشار الفيروس.
«توخى الحذر ضرورى جداً، لكن لا داعى للذعر، وأنا الآن أركب المترو بصورة طبيعية جداً» هكذا قالت كاثى، طالبة ثانوية، لـ«المصرى اليوم».
أما من جانب إدارة المترو، فقد صرحت المسؤولة عن العلاقات العامة لـ«المصرى اليوم» بأن الإدارة لم تشهد أى نقص يُذكر فى عدد الركاب ولكن «من جانبنا قررنا إضافة مراوح أخرى لتحريك الهواء بجميع القطارات، بالإضافة لغسل القطارات وتطهيرها جيداً...».
ويرى بعض ساكنى نيويورك أنه على الرغم من تعدى الحالات، المؤكدة إصابتها بالمرض، رقم الألفى حالة، فإن طبيعة الحياة فى نيويورك هى السبب الرئيسى وراء استمرا ر إيقاعها القاسى، دون النظر لأى مخاوف من المرض واستمرار انتشار الفيروس كل يوم.
وكما أوضحت سالى، ناشرة، لـ«المصرى اليوم»: «إن نمط العمل فى نيويورك القائم على المنافسة الشرسة، وفى مثل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، لا يمكن أن يضفى رفاهية التفكير فى التوقف عن العمل أو حتى منع أطفالى من الذهاب لمدارسهم.. فمعنى عدم ذهابهم للمدرسة جلوسى بالمنزل لرعايتهم، مما يهدد عملى ومصدر رزقى أو إحضار جليسة أطفال مما يعنى تحمل نفقات زائدة لا أستطيع تحملها فى ظل الظروف الراهنة».
وأضافت: لا أملك هذه الرفاهية، ببساطة على أن استمر فى الحياة كما هى حتى تصدر الدولة بوضوح قانوناً يمنعنى من العمل لتفشى الفيروس، لأنه فى هذه الحالة سيتم تعويضنا بأى شكل من الأشكال لكن الآن.. لا».
هذا الحديث الذى يعكس شيئاً من الطمأنينة عن الحاضر لا يعنى عدم القلق من المستقبل، فقد أثارت تصريحات الأطباء الأمريكيين والرئيس باراك أوباما المخاوف من عودة الفيروس بصورة أشد خطورة فى الخريف مع موسم انتشار فيروس الأنفلونزا.
ويقول توماس برات - حارس عقار: «لا أعلم كيف يمكن أن تصير الأمور إذا عاد الفيروس بشكل أكثر خطورة.. هذا شىء مقلق ويجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة لهذا الاحتمال من الآن».على كل الأحوال ترى «سالى»، أن الحياة من المستحيل أن يوقفها شىء.
وتقول: «لا يسعنا سوى أن نبذل ما فى جهدنا ونتمنى الأفضل وأن نستمر.. فقد استمرت الحياة هنا، ورجع كل شىء لطبيعته بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر.. لقد تمكنا من التغلب على آلامنا وعادت نيويورك لإيقاعها من جديد.. فهل تعتقدين أنه يمكن هزيمتها من أنفلونزا الخنازير؟.. لا أظن ذلك»